سورة التوبة - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)} [التوبة: 9/ 11- 15].
أوضح اللّه تعالى حال الكفار المشركين بعد أن اختاروا موقف العداء للمسلمين، فهم بين أمرين:
أحدهما: التوبة عن كفرهم والرجوع عن حالهم، والتوبة تتضمن معنى الإيمان بالله ورسوله ودينه، ثم قرن اللّه تعالى مع إيمانهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. إن فعلوا ذلك، فهم إخوانكم في الدين، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم، ونبين الآيات لقوم يعلمون، أي نوضح الأدلة والبراهين على وجودنا الحق، لقوم يعلمون ما نبين لهم، فيفهمون ويتفقهون. والأخوة في الدين: هي أخوة الإسلام وهي أقوى من أخوة النسب.
والأمر الثاني: القتال بعد نكث أيمانهم، أي بعد نقض عهودهم، وطعنهم في الدين، أي بالتعييب والاستنقاص والحرب وغير ذلك مما يفعله المشرك. وحينئذ فقاتلوا أئمة الكفر، أي رؤوسهم وأعيانهم الذين يقودون الناس إليه، والمراد بهذا أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وغيرهم، إنهم لا عهود لهم ولا ذمة، لعلهم بالقتال ينتهون عن كفرهم وباطلهم وإيذائهم المسلمين، والصحيح أن الآية عامة لمشركي العرب ولغيرهم، كما ذكر ابن كثير، والمراد بقوله: {لا أَيْمانَ لَهُمْ} أي لا أيمان لهم يوفّى بها ويبرّ.
ثم حرض اللّه تعالى على قتال مشركي العرب، قال قتادة فيما رواه أبو الشيخ: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في خزاعة حين جعلوا يقتلون بني بكر بمكة، وأسباب التحريض على قتالهم ثلاثة:
الأول- نكثهم العهد والأيمان التي أقسموا عليها. والعهد الذي نقضوه هو صلح الحديبية، لمناصرة قريش حلفاءهم بني بكر على خزاعة حلفاء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ليلا بالقرب من مكة، على ماء يسمى (الهجير) فسار إليهم الرسول وفتح مكة سنة ثمان هجرية في العشرين من رمضان.
والسبب الثاني- إخراجهم الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم من مكة، فقد أخرجوه من بلده: مكة، أي إنهم هموا وفعلوا.
والسبب الثالث- إنهم بدؤوا بقتال المؤمنين يوم بدر حين صمموا على المعركة، وفي مكة، وعاونوا بني بكر حلفاءهم على خزاعة حلفاء المؤمنين، فكان هذا بدء النقض. وكذلك في أحد والخندق وغيرهما.
ثم ذكر اللّه بعد هذه الأسباب الثلاثة دواعي أربعة للقتال: وهي تعداد موجبات القتال، والتحريض على الإغارة في قوله تعالى: {أَتَخْشَوْنَهُمْ} وكون اللّه أحق بالخشية لأنه صاحب القدرة المطلقة التي تدفع الضرر المتوقع وهو القتل، والإيمان بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فالإيمان قوة دافعة على الإقدام، والخلاصة: لا تخشوا أيها المؤمنون أعداءكم، واخشوا اللّه وحده، فهو أحق بالخشية منهم، إن كنتم مؤمنين بالله.
ثم أمر اللّه تعالى المؤمنين بالقتال أمرا صريحا حاسما بقوله: {قاتِلُوهُمْ} أي قاتلوا أيها المؤمنون أعداءكم، فإن قاتلتموهم يعذبهم اللّه بأيديكم، ويخزهم بالقتل والأسر والهزيمة، وينصركم عليهم، ويشف صدور قوم مؤمنين امتلأت غيظا من أفعال المشركين بهم في مكة، وهم بنو خزاعة حلفاء الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم الذين بيتهم بنو بكر والمشركون ليلا، وأعملوا فيهم السيف قتلا وذبحا بالوتير، قائمين وقاعدين، راكعين وساجدين.
وبالرغم من شناعة فعل المشركين بالمؤمنين، فإن اللّه تعالى يقبل توبة من يتوب عن كفره منهم، وقد حدث ذلك فعلا، فأسلم أناس منهم، وحسن إسلامهم، مثل أبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل، وسليم بن أبي عمرو. واللّه عليم بما يصلح عباده، حكيم في أفعاله وأقواله الكونية والشرعية، فيفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وهو العادل الحكيم الذي لا يجور أبدا، ولا يفعل إلا ما اقتضته الحكمة، ويجازي كل إنسان بما قدم من خير أو شر، في الدنيا والآخرة.
التحريض على الجهاد وعمارة المساجد:
إن إعداد الأمة إعدادا قويا، وبناء قوتها الذاتية، يتطلب عملا متواصلا من الجهاد، والاعتماد على الذات وثقات الناس، والإقبال على عمارة المساجد عمارة مادية بالبناء والترميم، ومعنوية بالصلاة والعبادة والخدمة، وعقد حلقات العلم والإرشاد والتوجيه، والإخلاص في العمل وبناء العقيدة الراسخة في النفوس. قال اللّه تعالى مبينا هذه الخطوات البناءة لإصلاح الفرد والجماعة:


{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16) ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} [التوبة: 9/ 16- 18].
تضمنت الآيات الكريمة طريق الحفاظ على كيان الأمة وصدّ عدوان المعتدين عليها، وبناء شخصيات المؤمنين بروحانية عالية ومعنويات رفيعة بالصلاة والزكاة، ليظفروا بجنان الخلد، وينعموا بالهداية والرشاد.
ليعلم المؤمنون أن الجهاد طريق الجنة، ولن يصح في موازين الأشياء ترك جماعة المسلمين من دون تمحيص ولا اختبار، ففي الجهاد يتبين أهل العزم والإخلاص الذين يجاهدون بالأموال والأنفس، ولم يتخذوا بطانة (أمناء سر) من الأعداء، يسرّون إليهم بأحوال المسلمين وأمورهم وأسرارهم، بل هم في الظاهر والباطن على النصح لله ولرسوله، وبه يتميزون عن المنافقين الذين يطلعون الأعداء على أسرار الأمة وسياستها وخططها، فلا بد من اختبار أهل الإيمان في عالم الدنيا، ولا سيما عند فرض القتال وفي كل شؤون الحياة، كما جاء في آية أخرى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2)} [العنكبوت: 29/ 1- 2].
واللّه خبير في كل وقت بأعمالكم أيها الناس، فيجازيكم عليها، ومن المعلوم أن التكليف الشاق على الأنفس كالجهاد هو الذي يحقق الغرض من الاختبار، ويظهر المخلص من المنافق.
ففي الحفاظ على الأسرار الخاصة بالأمة دليل على صدق الإيمان، لذا حذر القرآن من تسريب الأخبار إلى العدو، كما جاء في قوله سبحانه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 3/ 118].
ثم أناط اللّه تعالى أهلية عمارة المساجد بالمؤمنين، وسلبها من المشركين، فقال تعالى: {ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ} أي ما ينبغي وما يصح لهم وما يستقيم أن يعمروا مساجد اللّه ومنها المسجد الحرام بالإقامة فيه للعبادة، أو للخدمة والولاية عليه، ولا أن يدخلوه حجاجا أو عمّارا، وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر، بشهادة الحال والمقال، بعبادة الأصنام، والطواف بالبيت الحرام عراة، وكلما طافوا بالكعبة شوطا سجدوا لها. فهم بهذا جمعوا بين الضدين: عمارة بيت اللّه والكفر به. أولئك المشركون بالله حبطت أعمالهم بشركهم، فلا ثواب لهم، وهم في نار جهنم خالدون لعظم ما ارتكبوه، فإن الكفر محبط للعمل، ولا ثواب لصاحبه في الآخرة. قال تعالى: {وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23)} [الفرقان: 25/ 23].
وإذا كان المشركون غير أهل لعمارة المساجد، بسبب كفرهم، فإنما الذي يستحق عمارة المساجد بالحق والواجب وهو أهل لها من اتصف حقا بالإيمان بالله تعالى إيمانا صحيحا، بالاعتراف بوجوده وتوحيده، وتخصيصه بالعبادة والتوكل عليه، وآمن أيضا باليوم الآخر الذي يحاسب اللّه فيه العباد، ويجزي فيه بالثواب للمحسنين وبالعقاب للمسيئين، وأقام الصلاة المفروضة على الوجه الأكمل بأركانها وشروطها وتدبر تلاوتها وأذكارها، وخشوع القلب لله فيها، وآتى الزكاة المفروضة لمستحقيها المعروفين، كالفقراء والمساكين وأبناء السبيل، ولم يخش في قوله إلا اللّه وحده، دون غيره من الأصنام والعظماء الذين لا ينفعون ولا يضرون في الحقيقة، وإنما النفع والضر بيد اللّه، وهؤلاء هم الذين يرجى بحق أن يكونوا من المهتدين إلى الخير دائما، وإلى ما يحب اللّه ويرضيه، المستحقون الثواب على أعمالهم، لا أولئك المشركون الضالون الذين يجمعون بين الأضداد، فيشركون بالله، ويكفرون بما جاء به رسوله، ويسجدون للطواغيت (الأصنام) ثم يقدمون بعض الخدمات للمسجد الحرام كسقاية الحاج وتأمين الحرم.
أخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان».
فضل الإيمان بالله والجهاد:
ليس هناك أفضل ولا أكرم ولا أولى من الإيمان الخالص بالله تعالى، والجهاد في سبيله لإعلاء كلمة الحق ونشر دعوة اللّه في الأرض، فبالإيمان تنتعش النفوس وتسعد، وتقدم على الحياة بروح وثابة عالية ومنهج عقلاني صحيح، وبالجهاد تعتز الأمة وتعلو كلمتها وترهب أعداءها الطامعين في خيراتها، وسلب مقدراتها وإذلالها، لذا حرّض القرآن على الإيمان أولا والجهاد ثانيا في قوله تعالى:


{أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)} [التوبة: 9/ 19- 22].
سبب نزول الآية- فيما رواه مسلم وغيره عن النعمان بن بشير- قال: كنت عند منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في نفر من أصحابه، فقال رجل منهم: ما أبالي أن لا أعمل للّه عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر: بل الجهاد في سبيل اللّه خير مما قلتم، فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، وذلك يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة، دخلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، فاستفتيته فيما اختصمتم، فأنزل اللّه: {أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ} الآية.
ومن المعلوم أن السقاية والحجابة أفضل مآثر قريش، وقد أقرهما الإسلام، وكانت سقاية الحاج في بني هاشم، وكان العباس يتولاها، ولما نزلت هذه الآية قال العباس: ما أراني إلا أترك السقاية، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «أقيموا عليها فإنها لكم خير».
وعمارة المسجد: هي حفظه من الظلم فيه أو يقال هجرا، وكان ذلك إلى العباس.
أو هي السدانة: وهي خدمة البيت خاصة، وكانت في بني عبد الدار، وكان يتولاها عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، وشيبة بن عثمان بن أبي طلحة، وهما اللذان دفع إليهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مفتاح الكعبة في ثاني يوم الفتح بعد أن طلبه العباس وعلي رضي اللّه عنهما. وقال صلّى اللّه عليه وسلّم لعثمان وشيبة: «يوم وفاء وبرّ، خذوها خالدة تالدة، لا ينازعكموها إلا ظالم».
والراجح أن عمارة المسجد الحرام هي السدانة.
ومعنى الآيات: أجعلتم أهل السقاية وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر، وجاهد في سبيل اللّه سواء في الفضيلة والدرجة؟! فإن السقاية والعمارة، وإن كانتا من أعمال الخير، فأصحابهما لا يساوون في المنزلة أهل الإيمان والجهاد، ثم بيّن تعالى عدم تساوي الفريقين بقوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي لا يهدي القوم الكافرين في أعمالهم إلى ما هو الأفضل والأرقى رتبة، إذ قد طمس على قلوبهم، والآية إنكار صريح على تشبيه المشركين وأعمالهم المحبطة بالمؤمنين وأعمالهم المثبتة، وأن يسوى بينهم، وجعل تسويتهم ظلما، بعد ظلمهم بالكفر.
فالإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل اللّه بالمال والنفس أفضل وأعظم درجة عند اللّه من أعمال السقاية والسدانة أو العمارة.
ثم بيّن اللّه مراتب التفاضل بين المؤمنين أنفسهم، فإنها تتفاوت بحسب التفاوت في الإيمان، والهجرة، والجهاد بالمال والنفس، وحكم اللّه أن أهل هذه الخصال أعظم درجة عند اللّه من جميع الخلق، ثم حكم لهم بالفوز برحمته ورضوانه، والفوز: بلوغ البغية، إما في نيل رغبة، أو نجاة من مهلكة.
وهذا الفوز: هو أنه تعالى يبشرهم في كتابه المنزل على رسوله برحمة واسعة، ورضوان كامل، وجنات لهم فيها نعيم دائم، وهم في هذا النعيم خالدون على الدوام إلى ما شاء اللّه تعالى.
وإن اللّه عنده الثواب العظيم على الإيمان والعمل الصالح ومنه الهجرة، والجهاد في سبيل اللّه ومن أجل مرضاته، كما جاء في آية أخرى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} [التوبة: 9/ 72]. والرضوان: نهاية الإحسان، وهو شيء روحي، والنعيم في الجنة شيء مادي، فهو لين العيش ورغده.
والصحب الكرام سلف هذه الأمة هم أصحاب هذه الخصال، فعلى سيوفهم انبنى الإسلام، وهم ردوا الناس إلى الشرع، وأشادوا صرح الأمة ورفعوا عزة مجدها، لذا قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم- فيما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنس رضي اللّه عنه: «دعوا لي أصحابي: فو الذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد ذهبا ما بلغتم أعمالهم».
فهل يجوز لأحد النيل من أصحاب الرسول أو سبهم أو الطعن بهم؟! فمن فعل ذلك فهو من أفسق الفاسقين وأجهل الجاهلين والحاقدين.
ترك موالاة الآباء والإخوة غير المؤمنين:
أراد الحق سبحانه وتعالى تجميع قوى المؤمنين في بلد واحد في صدر الإسلام حتى يكونوا قوة متماسكين مرهوبين أمام الأعداء، فحضّ على الهجرة من مكة إلى المدينة المنورة، ورفض بلاد الكفر والشرك والإقامة مع المشركين، وجعل الجهاد مفضلا على ثمانية أشياء لإعزاز الدين وأهله، والتخطيط لبناء الأمة والمجتمع في المستقبل. قال اللّه تعالى موضحا هذه الخطة:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8